عن الحوار و استراتيجية ابو مازن (1-2)
"الحوار" مع حماس و ادماجها في النظام السياسي الفلسطيني كان في الاساس فكرة و مشروعا خاصا بمحمود عباس ابو مازن، توصل اليها منذ ما قبل وصوله الى منصب اول رئيس وزراء فلسطيني ابان عهد الرئيس الشهيد ابو عمار رحمه الله.
اذكر مثلا ، منتصف العام 2002، ان ابو مازن سرب الى جهاد الخازن، الصحفي المعروف و الكاتب في الحياة اللندنية، قناعته بما أسماه "خطأ" سياسة ابو عمار في التعامل مع حماس منذ قيام السلطة الوطنية، و انه كان ينبغي "علينا" (يقصد فتح و منظمة التحرير و السلطة) ان نحاور "الاخوة" في حماس و نتفاهم معهم، مؤكدا رؤيته بأن حماس جزء من النسيج الوطني و انها حريصة على القضية الفلسطينية و المشروع الوطني، لكن المشكلة فقط هي "اننا"، اي، مرة اخرى، فتح و ابو عمار، لم نعطي لحماس الفرصة المناسبة !...
على اي اساس بنى ابو مازن قناعاته و رؤاه تلك؟!، لا ندري...
الحق انه لم يبنيها سوى على انطباعات شخصية لا يسندها اساس علمي او سياسي رصين، و لا تقوم على قراءة واعية لطبيعة حركة حماس و طبيعة مشروعها السياسي و الايديولوجي و علاقاتها الاقليمية و الدولية، كما بات واضحا للجميع الان...
المهم ان أبو مازن مضى في قناعاته تلك، غير المبنية على اي اساس واقعي كما اشرنا، الى النهاية،
و منذ تبوئه منصب اول رئيس وزراء فلسطيني، فانه قد دخل في "بازار سياسي" مع حركة حماس، قوامه مقايضة المكاسب السياسية الخاصة التي كانت تحصل عليها الحركة ببعض المواقف على صعيد التهدئة و "الهدنة" و وقف بعض اشكال المقاومة (الامر الذي لم يكن يمثل اي مشكلة جدية لحماس !).
و هكذا، ففي كل جولة من جولات الحوار، التي ما كانت لتتم بهذا الشكل في الواقع لولا اصرار ابو مازن و اندفاعه الشخصي للحوار مع حماس، كانت الحركة تراكم مزيدا من المكاسب المتعلقة بما سمي "اصلاح منظمة التحرير"، او اجراء انتخابات فلسطينية وفق قوانين مشوهة لا تعكس حقيقة توجهات الشارع الفلسطيني، او توفير غطاء سياسي و شرعي لحماس دوليا و اقليميا، بل و حتى في مواجهة شارون و اسرائيل التي كانت قد بدأت للتو في عمليات اغتيال طاولت قيادات الحركة السياسية...
حماس كانت في كل مرة تحصل على تلك المكاسب و تراكمها، ثم تعرض اتفاقياتها مع ابو مازن على ذلك الصعيد باعتبارها تنازلا هائلا قدمته من اجل سواد عيون ابو مازن و "الوحدة الوطنية"، و انها ما كانت لتوافق على اي "هدنة" او تهدئة مع اسرائيل لولا الضغط الكبير الذي تعرضت له من جانب ابو مازن و حركة فتح،
في حين كان كل من يمتلك حدا ادنى من المعلومة و المعرفة بطبيعة حماس و اساليبها يدرك ان ما يحكمها في تمرير أمثال تلك الاتفاقيات كان مجرد اجندة مصلحية خاصة و انعكاسا لتوازنات و حسابات تنظيمية داخلية لدى حماس لا اكثر و لا اقل...
استمرت حماس تجني المكاسب، و استمر ابو مازن على نهجه في "الحوار" و "الشفافية" و خطوات ادماج حماس في النظام السياسي و المؤسسات الوطنية، و بطريقة توحي أننا نعيش في دولة مستقرة مستقلة لا تقل في ذلك شيئا عن "سويسرة"، و أننا كذلك نتعامل مع "ملائكة سياسيين" تقودهم الام تيريزا ، اسمهم (للصدفة) حركة حماس ،
و لسنا حركة تحرر وطني و "ثورة" تعيش في مناخ شرق اوسطي مليء بكل العقد و المشاكل الممكنة، و تتعامل مع مجموعة منغلقة حاقدة يقودها معاتيه من طراز الاسطل و ريان و ابو راس !...
الى ان كانت الانتخابات التشريعية و نتائجها المعروفة،
هنا تحولت حماس في مقايضتها السياسية، و بدلا من ان تقايض مكاسبها الخاصة بالتهدئة مع "الاحتلال" كما كانت تفعل (او بالاحرى تزعم انها تفعل) سابقا، فقد باتت أكثر وضوحا و مباشرة، و صار الثمن الذي تعرضه لقاء تلك المكاسب التي تحصل عليها هو "التهدئة" مع فتح و ابنائها، بل و مع المجتمع الفلسطيني عموما !...
لم يعد لدى حماس رادع اخلاقي يمنعها من ممارسة القتل و تفجير البيوت و الحاق الاعاقات الجسدية المستديمة بأبناء حركة فتح، ناهيك بالطبع عن الجريمة الكبرى في اخذ القضية و الشعب الفلسطيني كله رهينة تساوم على معاناته، و ذلك كثمن للتفاوض على مزيد من المكاسب السياسية الخاصة في المعادلة الفلسطينية الداخلية...
أصبح هذا واضحا لكل ذي عينين يبصر و يعيش و يتابع الواقع الفلسطيني، و ليس فقط من كان يحذر من حماس و توجهاتها بشكل نظري بناء على معرفته و دراسته لطبيعة تلك الحركة و حقيقة برنامجها السياسي و الفكري،
لكن المؤسف بالفعل انه لم يكن واضحا للقيادة الفلسطينية، و لأبو مازن تحديدا، الذي بقي، و في سلوك سياسي مدهش لا يمكن تفسيره، متمسكا باستراتيجية "الحوار" البائسة التي كان ينتهجها، مقدما التنازل تلو الاخر لحركة حماس، و مفرطا باوراق القوة التي كان يمتلكها بطريقة لا يمكن ان تتوقعها من احد هواة السياسة، لا من "قائد" شعب و قضية و حركة تحرر يفترض فيه انه "مجرب" و "خبير" و "محترف" !!...
حماس استمرأت اللعبة و كانت سعيدة جدا بافرازاتها و نتائجها في كل مرة، و "الرئيس" ابو مازن اظهر لها انه ببساطة شديدة قابل لعملية الابتزاز هذه بسهولة؛
فالتصعيد الاعلامي و السياسي ضده و ضد حركة فتح، و وصولا الى التصعيد الميداني و العسكري، متمثلا بعمليات القتل و الاغتيال و مهاجمة المقرات و الاجهزة، يؤتي أكله بطريقة مدهشة !!،
و الرجل ، اي ابو مازن، لا يستفزه او يستثيره ابدا ان تلوى ذراعه و ذراع شعبه و ذراع الحركة التي يفترض انه "قائدها العام" بهذا الشكل على الاطلاق، بل ان تلك تحديدا هو الوسيلة الاجدى و الانجع لفرض مطالب حماس تمرير اجندتها !...
هذا الاسلوب كان ابو مازن يفترض انه سينجح في احتواء حماس و لجم عدوانيتها، لكنه و على العكس من ذلك، و كما كنا ندرك و نصرخ منذ البداية محذرين، جعل حماس تفهم انها امام رئيس ضعيف هش و امام حركة يمكن بسهولة اخضاعها للأجندة الحمساوية الخاصة، الامر الذي شكل الارضية المناسبة و مهد بشكل مباشر لعملية الانقلاب التي جرت ليلة الرابع عشر من حزيران الفائت...